تحديات اقتصاد الحرب في اليمن

Case Report | 7 Nov 2025 19:38

 

 

تمهيد

يُعدّ البعد الاقتصادي أحد أهم الجوانب التي كشفت عمق الأزمة اليمنية وتداعياتها الممتدة على الدولة والمجتمع، فمنذ اندلاع الحرب وتعدد مراكز السلطة، دخل الاقتصاد اليمني في مرحلة من الانكماش الحاد والانقسام المؤسسي، وفقدت الحكومة الشرعية القدرة على إدارة الموارد العامة وتوجيهها بما يحقق الاستقرار المالي والمعيشي، وترافقت هذه الأزمة مع توقف تصدير النفط والغاز، وتراجع الدعم الخارجي، وتفشي الفساد والمحسوبية، وازدواج الإدارة بين أطراف متعددة تتقاسم النفوذ والقرار.

في ظل هذا الواقع، تشكّل ما يمكن تسميته بـ "اقتصاد الحرب"، وهو نمط اقتصادي يقوم على الفوضى وتعدد المصالح، حيث تحوّلت موارد الدولة إلى أدوات تمويل للقوى والأطراف المسيطرة، وظهرت شبكات نفوذ جديدة تمارس أنشطة غير قانونية، مثل التهريب والمضاربة وفرض الجبايات، الأمر الذي أدى إلى تشوه بنية الاقتصاد الوطني وازدياد معاناة المواطنين.

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه المناطق التابعة للحكومة المعترف بها دولياً، مع التركيز على "اقتصاد الحرب" ومظاهره وآثاره وتداعياته على المؤسسات الدولة والمجتمع والاقتصاد والوضع المعيشي والخدمي، كما تتناول العلاقة بين العوامل السياسية والإدارية والاقتصادية التي أدت إلى إضعاف مؤسسات الدولة وتعطيل دورها، في محاولة لفهم طبيعة الأزمة الاقتصادية اليمنية في سياقها الشامل وأبعادها المتشابكة، خاصة والبلد تعيش في أتون حرب متواصلة منذ أكثر من عشر سنوات.

 

 

 

مدخل: حزمة إجراءات رئاسية لمواجهة التحديات الاقتصادية

أقر مجلس القيادة الرئاسي، أواخر أكتوبر الماضي، حزمة من الإجراءات والقرارات الرامية لتحسين الأوضاع الاقتصادية ودعم مسار الإصلاحات الشاملة، شملت تشديد الرقابة على المنافذ البرية والبحرية والجوية، وتوسيع نطاق الربط الشبكي والإلكتروني للإيرادات السيادية، وتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي في مختلف القطاعات.

وأكد مجلس القيادة الرئاسي، دعمه للحكومة في تنفيذ القرارات ذات الصلة، ووصولها الكامل إلى الموارد العامة، كما شدد على تمكين البنك المركزي من جميع أدواته في إدارة السياسة النقدية، للحد من المضاربات، وتعزيز استقرار العملة الوطنية، مع رفع مستوى التنسيق بين كافة المؤسسات لتنفيذ مصفوفة الإصلاحات المعتمدة على نحو عاجل ومنتظم.

وجاءت هذه القرارات بعد سلسلة من الاجتماعات المتواصلة لمناقشة الأوضاع الاقتصادية والمالية، وعلى ضوء مداولات الاجتماعات الأخيرة بشأن مستوى تنفيذ قرارات مجلس القيادة الرئاسي المتعلقة بمصفوفة الإصلاحات، وخطة التعافي الاقتصادي، بما في ذلك دعم موقف العملة الوطنية، وخيارات حشد الموارد المحلية والخارجية، وتعزيز الثقة مع مجتمع المانحين، لتمكين الحكومة من الوفاء بالتزاماتها، ومواجهة عجز الموازنة العامة، وتحسين مستوى الخدمات الأساسية.

والمؤكد أن هذه الإجراءات تهدف لمواجهة أغلب الاختلالات القائمة التي فاقمت المعاناة والانهيار الاقتصادي والمالي، سيما بعدما توقف تصدير النفط منذ أكتوبر 2022، وتراجعت الإيرادات السيادية، غير أن ثمة شكوك في إمكانية تنفيذ هذه الحزمة من القرارات في ظل ضعف مؤسسات الدولة المركزية، مقابل تصاعد نفوذ القوى والأطراف المحلية في أكثر من منطقة، بما فيها المناطق ذات الموارد الاقتصادية الرئيسية.

وكانت الحكومة قد أنشأت في يوليو الماضي "اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الموارد"، بهدف تعزيز شفافية الموارد الاقتصادية وتوجيه النقد الأجنبي نحو القطاع المصرفي الرسمي، وشملت التدابير الحكومية حينها قيودا على مبادلات العملات الأجنبية، وحظر استخدامها في المعاملات المحلية، وإلغاء تراخيص محلات الصرافة المشتبه في تلاعبها بالعملة، وأدت هذه الإجراءات إلى ارتفاع ملحوظ في قيمة الريال اليمني واستقراره.

 

أبرز التحديات الاقتصادية

يشير صندوق النقد الدولي إلى أن اليمن – بعد سنوات من الحرب – غدت من أكثر بلدان العالم هشاشة، حيث تواجه أزمة إنسانية حادة وضعفا كبيرا في الاقتصاد الكلي، وعلى مدى سنوات الحرب انكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنحو 27%، وتراجع متوسط دخل الفرد، وأدى انخفاض قيمة العملة والتضخم إلى كبح الدخول الحقيقية. وبعد أن أوقفت هجمات الحوثيين على المنشآت النفطية تصدير النفط في عام 2022، أصبح اليمن مستورداً للنفط بشكل كامل.

وبحسب بيان الصندوق الذي صدر الشهر الماضي، فإن النزاع تسبب في انعدام الأمن الغذائي على نطاق واسع، وبات أكثر من نصف السكان بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، بالإضافة إلى محدودية الوصول إلى المياه النظيفة، وتفشي الأمراض، والنزوح الجماعي، وعلى الرغم من تقديم المنظمات الدولية للمساعدات، إلا أن حجم الأزمة يفوق الموارد المتاحة.

بعثة الصندوق ذكرت في بيانها أن إيرادات الحكومة (المعترف بها دولياً) انخفضت منذ عام 2022 بأكثر من 8 نقاط مئوية من إجمالي الناتج المحلي، بسبب توقف صادرات النفط، وتحول التجارة إلى الموانئ الشمالية (الواقعة تحت سيطرة الحوثيين)، وتزايد التهريب، واستقطاع المحافظات لإيرادات الحكومة المركزية.

بالإضافة إلى ذلك، أدى التنافس بين المحافظات على حركة الموانئ إلى اختلاف معدلات الضرائب، وتفاوت التعريفات الجمركية، وانخفاض الإيرادات الكلية الممكنة للحكومة، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الإنفاق الحكومي بنسبة 5.4 نقطة مئوية من إجمالي الناتج المحلي، واعتمد التمويل الحكومي في الأساس على السحب على المكشوف من الخزانة، وقام البنك المركزي بتعقيمه بشكل أساسي، باستخدام الودائع السعودية لبيع احتياطيات النقد الأجنبي والتحكم في نمو المعروض النقدي والتضخم.

إلى ذلك قال البنك الدولي إن الاقتصاد اليمني يواصل مواجهة ضغوط كبيرة، حيث يساهم استمرار الصراع والتجزئة المؤسسية، إلى جانب تراجع الدعم الخارجي، في تفاقم الأزمة، مشيراً إلى أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي انخفض بنسبة 58% منذ عام 2015، وتجاوز التضخم في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية نسبة 30% في العام الماضي (2024)، وهو العام الذي شهد انخفاضاً ملحوظاً في قيمة الريال اليمني مقابل الدولار، حيث تراجع من 1,540 ريال إلى 2,065 ريال على مدار العام. (عاود الارتفاع منذ أواخر يوليو الماضي ليستقر عند 1,600 ريال).

تقرير البنك الدولي الذي صدر مؤخرا تحت عنوان "الهشاشة المستمرة وسط تزايد المخاطر"" سلط الضوء على الحصار المستمر الذي تفرضه قوات الحوثيين على صادرات النفط، مما أدى إلى انخفاض إيرادات الحكومة، (مع استبعاد المنح) إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2024، مؤكداً أن البيئة الاقتصادية لا تزال هشة، كما أن وجود انقسام عميق في اليمن إلى منطقتين اقتصاديتين، مع مؤسسات وسلطات نقدية وأسعار صرف منفصلة، يزيد من التفاوتات، ويقوض الجهود الرامية إلى تحقيق التنسيق على مستوى السياسات العامة للدولة.

ووفقاً للتقرير فقد أدت التوترات في البحر الأحمر إلى تعطيل شديد لطرق التجارة عبر مضيق باب المندب، مما أسفر عن زيادة في تكاليف الشحن، وفي الوقت نفسه، تدهورت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.

ومن أهم مظاهر التدهور الاقتصادي (في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً):

  • تراجع قيمة العملة الوطنية، وما يؤدي إليه من ارتفاع أسعار المواد الأساسية والخدمات الضرورية، مع وجود انقسام نقدي حيث يتم تداول عملات مختلفة في مناطق سيطرة الحوثيين.
  • عجز الموازنة وانكماش الإيرادات، خاصة بعد توقف صادرات النفط والغاز، التي تعد المصدر الرئيس لإيرادات الدولة، ونجم عن ذلك العجز عن دفع رواتب موظفي القطاع العام بشكل منتظم، والاعتماد على المساعدات والودائع الخارجية (السعودية خاصة)، لدعم الموازنة وتعزيز العملة.  
  • تفاقم الأزمة الإنسانية وتدهور الأمن الغذائي وارتفاع معدلات الفقر والمجاعة، وتزايد اعتماد الأسر على آليات التكيف السلبية، مثل الديون وعمالة الأطفال.
  • انتشار الفساد وهيمنة اقتصاد الحرب وإهدار الموارد، وسيطرة الشبكات المالية غير الرسمية.
  • تدهور مستوى الخدمات الأساسية، وفي مقدمتها الكهرباء والمياه.

 

اقتصاد الحرب: تشكل المصالح الموازية وتفكك الدور الاقتصادي للدولة

اقتصاد الحرب مصطلح يُطلق على الأنشطة الاقتصادية التي تنشأ، أو تزدهر في ظل الحروب والصراعات، حين تتحول الموارد والإنتاج والتجارة من خدمة التنمية والاستقرار إلى خدمة القتال ومصالح الأطراف والقوى ذات النفوذ.

وفي مثل هذه الأوضاع تتراجع سلطة الدولة وتضعف مؤسساتها المالية والقانونية، فتظهر شبكات موازية تستفيد من الفوضى، وفي الحالة اليمنية برز "اقتصاد الحرب" بوصفه أحد أخطر إفرازات الصراع، ويمكن تحديد أبرز ملامح اقتصاد الحرب ومظاهره على النحو الآتي:

  • ظهور شبكات نفوذ مالية جديدة، من خلال استغلال بعض المسؤولين المحليين وقادة الفصائل ضعف الرقابة وانقسام السلطة لتكوين مصالح اقتصادية خاصة، عبر السيطرة على الموانئ والمنافذ البرية والجبايات.
  • تراجع دور الدولة كمصدر وحيد للشرعية الاقتصادية، حيث أصبح لكل منطقة أو تشكيل عسكري نظام مالي وإداري خاص، مما أدى إلى تفكك النظام الاقتصادي العام، وتراجع سلطة البنك المركزي والمؤسسات الإيرادية.
  • انتعاش السوق السوداء.
  • تآكل الطبقة الوسطى واتساع الفجوة الاجتماعية، حيث تدهورت رواتب الموظفين وتزايدت معدلات الفقر، بينما تراكمت الثروات في أيدي قلةٍ من المنتفعين من اقتصاد الحرب.
  • تأثيرات إنسانية عميقة، تمثلت في انعدام الأمن الغذائي، وارتفاع معدلات الفقر، وتراجع الخدمات العامة، وازدياد اعتماد الناس على المساعدات الإنسانية.

 

يمكن القول إن اقتصاد الحرب في اليمن منظومة اقتصادية غير رسمية، تشكّلت بفعل الحرب والصراعات المسلحة والانقسام السياسي، وأصبحت تتحكم في جزء كبير من الموارد والأنشطة المالية بعيدًا عن مؤسسات الدولة.

لقد تراجع الدور الاقتصادي للحكومة التي فقدت السيطرة على جزء كبير من الإيرادات، سواء بسبب توقف تصدير النفط والغاز أو نتيجة الازدواج في الإدارة وتعدد القنوات المالية، كما نشأت شبكات مصالح جديدة بين أطراف سياسية وعسكرية واقتصادية تعمل في مناطق مختلفة، تستفيد من استمرار الحرب عبر احتكار السلع، والمضاربة بالعملة، والتحكم في المنافذ البرية والبحرية، وأصبح الاقتصاد اليمني يعاني من تشوهات هيكلية عميقة، حيث تراجع الإنتاج المحلي، وتدهورت قيمة العملة، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات قياسية.

 

التأثيرات الرئيسية لاقتصاد الحرب على الأوضاع العامة

أدى اقتصاد الحرب إلى تدهور كارثي في مختلف جوانب الحياة في اليمن، ومن أبرز تأثيراته:

  • الكارثة الإنسانية وتفاقم الفقر: حيث أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر بشكل كبير، وتشير التقارير إلى أن ما يقارب 90% من السكان باتوا تحت خط الفقر، ووصل ملايين الأشخاص إلى مراحل متقدمة من المجاعة.
  • الانهيار الاقتصادي والمالي.
  • انتشار الفساد وازدهار الشبكات والأنشطة غير القانونية، وسيطرة النافذين على موارد الدولة ونقاط التفتيش والجمارك والضرائب وغيرها.
  • تدهور الخدمات العامة والبنية التحتية، ويشمل تدمير البنية التحتية وتدهور الخدمات الأساسية.

 

توقف تصدير النفط والغاز

منذ أواخر أكتوبر 2022، توقفت عمليات تصدير النفط الخام من موانئ الشحر والنشيمة بعد هجمات الحوثيين بالطائرات المسيّرة على موانئ حضرموت وشبوة.

كانت عائدات النفط تمثل أكثر من 70% من موارد الحكومة الشرعية وقرابة 60% من إجمالي الإيرادات العامة، وبذلك مثّل التوقف صدمة مالية واقتصادية كبيرة، سيما في ظل غياب بدائل إنتاجية واقتصادية.

ووفقاً لبيانات البنك المركزي اليمني، فقد خسرت اليمن أكثر من 6 مليارات دولار، نتيجة توقف صادرات النفط والغاز، كما أدى لزيادة معاناة الشعب وتدهور متسارع في الأوضاع وانعدام الأمن الغذائي، والقدرة على توفير الخدمات الأساسية وزيادة معدلات الفقر.

ونتج عن توقف تصدير النفط تراجع الإيرادات الحكومية إلى أدنى مستوى منذ 2015، ولم تعد الحكومة قادرة على تحصيل موارد من الصادرات النفطية، وتحول الاعتماد الكامل على الإيرادات المحلية، مثل الجمارك والضرائب والموانئ، وهي موارد بالكاد تغطي جانباً من النفقات التشغيلية، بالإضافة إلى عجز الموازنة، وتراجع الإنفاق على الخدمات الأساسية ما أدى إلى تراجعها، خاصة الكهرباء والمياه، وانقطاع رواتب موظفي الدولة.

أما التداعيات السياسية والإدارية لتوقف تصدير النفط فإن أبرزها يتمثل في تآكل شرعية الحكومة بسبب عجزها عن دفع الرواتب وتوفير الخدمات، الأمر الذي أدى إلى تنامي السخط الشعبي عليها، وإضعاف قدرتها وحضورها، مقابل تنامي نفوذ القوى المحلية ذات النفوذ والسطوة. 

 

الفساد والمحسوبية

يعتبر الفساد جزءًا لا يتجزأ من اقتصاد الحرب، حيث تحوّلت مؤسسات الدولة ومواردها إلى أدوات لتحقيق الأرباح، ولم يعد الفساد مجرد اختلاس عادي، بل أصبح نظامًا منهجيًا.

منذ انتقال الحكومة اليمنية إلى عدن عام 2015، واجهت مؤسساتها المالية والإيرادية ضعفاً في البنية الإدارية والرقابية، ومع تصاعد الحرب وانقسام المؤسسات، تفككت منظومة الجباية والتحصيل، وأصبحت الإيرادات تُجمع وتُنفق على مستوى المحافظات دون رقابة مركزية، وأفرز هذا الوضع بيئة خصبة للفساد المالي والمحسوبية، وتراجع ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، وأضعف قدرة الحكومة على إدارة مواردها المحدودة.

 

ومن أهم مظاهر الفساد المالي والمحسوبية:

  • ازدواج مراكز التحصيل المالي، بسبب وجود أكثر من جهة تقوم بجباية الضرائب والجمارك في الميناء أو المنفذ نفسه (السلطة المحلية – الجهة الأمنية – الجيش – مؤسسات سيادية-جماعات مسلحة)، ويؤدي هذا التعدد إلى إيرادات متفرقة لا تدخل الحساب الموحد للبنك المركزي.
  • الرسوم والجبايات غير القانونية، من خلال فرض جبايات من قبل جهات أمنية أو عسكرية تحت مسميات مختلفة ودون سند قانوني، وتذهب هذه الإيرادات إلى حسابات خاصة ولصالح جهات معينة.
  • المحسوبية في التعيينات المالية والإدارية، بتعيين كثير من المسؤولين في المناصب الإيرادية الحساسة على أساس الولاء السياسي أو المناطقي، بعيداً عن الكفاءة والخبرة والنزاهة، وأدى هذا إلى تضارب المصالح ووجود إدارة غير كفؤة.  
  • غياب الشفافية والمساءلة، خاصة مع غياب الأجهزة الرقابية المستقلة (الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وهيئة مكافحة الفساد)، أو تجميد دورها، وتعطيلها ومحاربة موظفيها.

 

عدم توريد الإيرادات إلى البنك المركزي:

أدى عدم توريد الإيرادات المالية إلى البنك المركزي- كواحد من أشكال الفساد المالي والإداري- إلى انكماش موارد الدولة، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والإنسانية، حيث الأصل أن جميع الإيرادات السيادية يتم توريدها إلى البنك المركزي في عدن، ليقوم بدوره.

 وقد ارتبط بهذا الأمر جملة من التداعيات:

  • فقدان وحدة الخزينة العامة، لأن غالبية المؤسسات الإيرادية تحتفظ بالإيرادات، وتستخدمها في الإنفاق المباشر يدون رقابة.
  • ظهور حسابات موازية وغير رسمية، تقوم بعض المكاتب الحكومية بفتح حسابات بنكية خاصة في مصارف تجارية محلية لإدارة الأموال بعيداً عن النظام المالي الرسمي، وهو ما يجعل البنك المركزي فاقدا دوره في الإشراف على الدورة المالية، وبالتالي تفقد الدولة السيطرة على حركة النقد.
  • ضعف قدرة البنك المركزي على إدارة السياسة النقدية، ويرجع ذلك إلى شحة الموارد وتعدد مراكز الإيرادات، وأصبح البنك المركزي عاجزاً عن تمويل نفقات الدولة أو تغطية رواتب الموظفين، بعدما فقد أدواته في ضبط السوق النقدي وسعر الصرف.

والخلاصة إن الفساد المالي وعدم التزام المؤسسات الإيرادية بتوريد الأموال إلى البنك المركزي لم يؤديا فقط إلى ضعف الإيرادات، بل إلى تفكيك البنية الاقتصادية والمالية للدولة الشرعية نفسها، لأن النتيجة كانت مضاعفة الأعباء الاقتصادية بما فيها: انهيار العملة والعجز عن دفع الرواتب بانتظام، وتراجع الخدمات الأساسية.

 

الازدواج في إدارة الدولة:

يبرز الازدواج في إدارة مؤسسات الدولة- بما فيها المؤسسات الإيرادية- في كثير من الجهات والقطاعات التابعة للحكومة الشرعية، وكانت القرارات الانفرادية التي أصدرها عضو مجلس القيادة الرئاسي- عيدروس الزبيدي/ رئيس المجلس الانتقالي، الشهر الماضي هي التجلي الأكثر وضوحاً لازدواج الإدارة، حيث أعلن عدداً من قرارات التعيين التي شملت نواب ووكلاء وزارات ومحافظات، ورؤساء مصالح ومؤسسات إيرادية حيوية للعناصر التابعة للمجلس الانتقالي، وهو الأمر الذي أدى إلى نشوب موجة جديدة من الخلافات داخل مجلس القيادة، ما استدعى تدخلاً من جانب السعودية – الداعم الرئيس للحكومة ومجلس القيادة، ليصل الأمر إلى إبرام تسوية قضت بتعليق قرارات الزبيدي- باستثناء واحد منها تم الاتفاق على اعتماده، فيما اشترط الزبيدي عدم اعتماد قرار الحكومة بتعيين سالم العولقي – قيادي في الانتقالي- على رأس هيئة أراضي وعقارات الدولة.

ويمكن الإشارة هنا إلى أن ازدواجية الإدارة أدت إلى شيوع التعيينات القائمة على الولاء والمحسوبية، حيث يسعى كل طرف في السلطة لتثبيت نفوذه بتعيين الموالين له في المناصب الحساسة، وهذا حوّل الجهاز الإداري إلى شبكة ولاءات شخصية لا تخضع لمعايير الكفاءة أو النزاهة، كما أدت الازدواجية إلى تضارب الصلاحيات، فعلى الرغم أن الحكومة هي المسؤولة عن السياسة الاقتصادية، لكن بعض قراراتها تُعرقل أو تُلغى أحياناً من قبل أطراف نافذة ومسلحة، كما حدث مع قرار رئيس الحكومة بتعيين سالم العولقي الذي سبقت الإشارة إليه. وهذا جعل قرارات الحكومة –وفي مقدمتها القرارات الاقتصادية- رهينة للتجاذبات السياسية، أكثر من كونها ناتجة عن رؤية موحدة.

ولا شك أن ثمة نتائج وتداعيات سلبية لازدواجية الإدارة، يأتي في مقدمتها: إضعاف وحدة القرار الاقتصادي، وشلل مؤسسات التخطيط والرقابة، وعرقلة استئناف إدارة الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى تفاقم الفساد وتسييس الاقتصاد، من خلال استخدام الموارد في مكافأة الموالين وشراء الولاءات والاستقطاب السياسي، وهو ما يعني تراجع مبدأ المساءلة والكفاءة لصالح شبكة الولاءات والمنافع الخاصة، وتراجع قدرة الدولة على ضبط الموارد، وتنامي اقتصاد الحرب، وضعف ثقة المواطن بالمؤسسات العامة.

وخلاصة الأمر إن الازدواج في السلطة أفرز اقتصاداً مشوهاً تتقاسمه مراكز النفوذ، وتعجز معه الحكومة عن بناء سياسة اقتصادية متماسكة قادرة على مواجهة تحديات الحرب.

 

غياب الدعم الخارجي

منذ توقف تصدير النفط والغاز – الذي كان يمثل المصدر الرئيس للعملة الصعبة – أصبحت الحكومة تعتمد بدرجة كبيرة على المنح والمساعدات الدولية لتغطية العجز في الموازنة وتمويل النفقات التشغيلية والرواتب، ومع تراجع هذا الدعم أو تأخره، وجدت نفسها في أزمة سيولة خانقة، انعكست مباشرة على أداء المؤسسات العامة وعلى حياة المواطنين.

وتظهر تأثيرات غياب الدعم الخارجي من خلال غياب التدفقات المالية الخارجية، الذي أدى إلى نقص شديد في احتياطي النقد الأجنبي، وزيادة معاناة المواطنين، لأن توقف الدعم الخارجي أسفر عنه تراجع المساعدات الإنسانية والتمويلات المخصصة للقطاع الصحي والتعليمي والخدمات الأساسية، وهو ما انعكس في ارتفاع معدلات الفقر والجوع والبطالة.

إن غياب الدعم الخارجي وضع الحكومة أمام أزمة اقتصادية مركبة، إذ لم تعد تملك موارد ذاتية كافية، الأمر الذي جعلها عاجزة عن تحقيق الاستقرار المالي أو تلبية الحد الأدنى من احتياجات المواطنين.

أبرز الآثار الاجتماعية والإنسانية للحرب والتدهور الاقتصادي

شملت آثار التدهور الاقتصادي الحياة الاجتماعية والإنسانية برمتها، ومن ذلك:

  • النظام الصحي:

بات يعاني من نقص الكوادر والإمدادات، نتيجة تراجع الإمكانيات المادية، وأدى توقف الرواتب ونقص الدعم إلى هجرة الكوادر الطبية، والنقص الحاد في الأدوية والإمدادات الطبية، بالإضافة إلى تفشي الأوبئة الفتاكة مثل الكوليرا والحصبة، بسبب نقص المياه النظيفة وتدمير كثير من شبكات الصرف الصحي.

  • التعليم:

تسرب الطلاب وحرمان ملايين الأطفال من حقهم في التعليم، نتيجة صعوبة الأوضاع المعيشية التي دفعتهم بعيداً عن المدارس وأجبرتهم على العمل، كما أن عدم انتظام دفع رواتب المعلمين إلى توقف عملية التعليم في كثير من المناطق.

  • العنف والتفكك الاجتماعي:

أجبرت الحرب والتدهور الاقتصادي ملايين اليمنيين على النزوح الداخلي (قرابة 4,5 ملايين)، حيث يعيشون في ظروف قاسية وتفتقر لأبسط مقومات الحياة، وهذا بدوره أدى إلى انتعاش آليات التكيف السلبي مثل: العنف وعمالة الأطفال وتجنيدهم من قبل بعض الأطراف المشاركة في الحرب، فضلاً عن انتشار الأمراض والاضطرابات النفسية، خاصة بين الأطفال.

 

الخاتمة

يتضح هنا أن التحديات الاقتصادية في المناطق التابعة للحكومة الشرعية تتجاوز كونها أزمة مالية ظرفية، إلى كونها أزمة بنيوية مركبة نتجت عن تداخل العوامل السياسية والعسكرية والإدارية، فقد أسهم توقف تصدير النفط والغاز، واستشراء الفساد المالي، وازدواج الإدارة، وغياب الدعم الخارجي في تعميق الانهيار الاقتصادي وإضعاف مؤسسات الدولة.

وأنتج "اقتصاد الحرب" واقعًا اقتصاديًا موازياً تتحكم به شبكات نفوذ محلية، وتستفيد منه أطراف متعددة على حساب الدولة والمجتمع. وقد انعكس ذلك في تفاقم الفقر، وتدهور الخدمات، وانهيار الثقة بالمؤسسات الرسمية.

وستظل آثار "اقتصاد الحرب" حاضرة ما لم تُتخذ إصلاحات جذرية تُعيد للدولة دورها الاقتصادي، وتفكك شبكات المصالح غير المشروعة التي تشكلت خلال الحرب، وإن تجاوز هذه المرحلة يتطلب رؤية وطنية شاملة تعيد الاعتبار لمبدأ العدالة الاقتصادية وتؤسس لإدارة رشيدة للموارد، بما يضمن تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والاقتصادي.

 

Share :